ad

الاثنين، 19 سبتمبر 2011

أستاذي نبات البوتس



بسـ الله الرحمن الرحيم ـم







هذا مقال
رقيق وقع صدفة في يدي
من خلال قصاصة قديمة لجريدة الأخبار
وبها هذا المقال
للفنان صاحب الوان وظلال
أكيد تعرفونه
وقد نقلته بحروفه كما ورد
_______

جلست طويلاً أتأمل الركن الأخضر
الذي يجمل مساحة صغيرة من الشرفة
المطلة على الشارع
وكأني أجلس في متنزهات
"الهايد بارك"
بلندن أو بالشانزليزيه بباريس
حفنة من النباتات تقبع هناك
في صمت وتحيل المكان الخرساني القفر
إلى حديقة غناء دائمة الإمتاعوالعطاء
الى جانب ما تضفيه من متعة تأمليةبالغة العمق
وكأنها كتاب في الفلسفة واليوجا أو الشعر الصوفي
ونحن نخطئ عندما نقول
أن كل النباتات خضراء
صحيح أن الخضرة هي السمة العامة لفصيلة النباتات
ولكن هذا التعميم يحتاج إلى بعض التدقيق
ويكفي متابعة أوراق شجرة واحدة على مدى فصول السنة
النرى كيف تخلعفي كل فصل رداءهاوتستبدله برداء آخر
وهناك فرق بين خضرة وخضرةوتستطيع العين السوية
أن تميز بين الفروقات الطفيفةبين نبات وآخر
فتزداد المتعةويتضاعف التسبيح الصامت
فهذا أخضر فيروزي
وهذا أخضر زيتوني
وذاك زمردي
وهذه خضرة داكنة
وهذه زاهية
وتلك مائلة للشحوب
وهذا أخضر خجول
قريب الى الللون البنفسجي
وكأنه كائن صامت يميل الى العزلة
أو مفكر يجتر خزاطرة وأفكاره
ويستدجني التامل الى ظاهرة اخرى
غير ظاهرة اللون
.. الشكل..تنويعات هائلةوتشكيلات وتركيبات بلا عدد
أضف الى ذلك ما فوق الأوراق من رسوم
كأنها أجنحة الفراشات
او تصميمات بارعة لفساتين السهرة
في مهرجان الربيع
ويصر الركن المتواضع على استعراض مافي جعبته
من متع الجمال
فيكشف لي عن ظاهرة أخرى ظاهرة الملمس
فهذا ورق ملمسه ناعم كالحرير
وهذا حنون كالقطيفة
وذاك خشن كالسنفرة
أو سمين كالوسادة
وذلك له بريق صدفي
يلمع تحت الضوء
تشكيلة رائعة مختلفة السمات والملامح
كل نبات له خصوصيته
وكل نبات له بطاقة شخصية
تحمل إسمه وفصيلته
ومنبته وطريقة التعامل معه
وقائمة من أسماء لاحصر لها
يعرفها جيداً أصدقاء الخضرة
بعد هذه الجرعة الهائلة من الراحة النفسيةوالوجبة التأملية الدسمة
التي أشعرتني بقيمة الحياه
وقيمة التأمل والمعايشة
عجبت من أعداء الخضرةوأشفقت على أولئك الذين لا يتعاطفون
مع النبات
كيف يطيقون الأتكتحل عيونهم
بهذا اللون السحري الذي يلون النفس قبل العين
كيف لاتكون معايشة الخضرة
جزءاً من برنامج الحياه اليومي؟؟
ان في إستطاعة أي إنسان
مهما تواضعت قدرته المالية أن يجمل بيئته المنزلية
بملاليم .. كانت امهاتنا أيام زمان يستزرعون حبوب العدس
والحلبة والقمح في اطباق فيبتسم المكان
ثمر البطاطا إذا سقيت بإنتظام
تغني عن باقة ورد باهظة الثمن
وتضفي على المنزل لمسة جمال
كم أعجبني ذلك التقليد الحضاري الذي بدأيسري في مجتمعنا المصري
سريان العدوى
فقد بدأ الأصدقاء يتبادلون أصص النبات الأخضر
في الأعياد والمناسبات ..!
ان نبتة خضراء أكثر نبلاً من من علبة شيكولاتة غبية
تمتع الأمعاء في لحظات
ثم يزول أثرها بعد حين
أما نبتة خضراء حية
فإنها بطاقة تفاؤلية تقول فيها لصديقك
فلتكن أيامك جميعها خضراء بلون هذه الأوراق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لم أستطع مقاومة اغراء الأوراق الخضراء
وهي تلتف

حول الإناء الزجاجي
في تناسق بديع يغري أي فنان
بأن يستوحي منها لوحة فنية لا تذبل أوراقها
امسكت ورقة وأقلاماً ملونة ورحت ارسم المشهد الذي أمامي
وأنا مستمتع بهذا النسق الجميل
وسعيد بأن بدأت علاقة حميمة بيني وبين النبات
الذي تفوق سعادتي وأنا أرسم أجمل الحسناوات واكثرهن فتنة
فأنا الآن في حوار دافئ مع ذلك الكائن الصامت
حوار بغير لغة البشربل لعله أكثر بلغة ودفئاً من لغة البشر





فجأة نحيت القلم جانباً
ورحت أتأمل شيئاً جديداً بدأ يطفو فوق السطح
انه درس عظيم فني تعلمته في حياتي
رحت أحملق في نبات البوتس الذي ينمو في التربة والماء على السواء
ويتسلق الجدران أو يزحف على الأرض
ويخطط لنفسه مساراً وفق ظروف المكان ودرجة الحرارة والضوء نبات ذكي
ماكر يعرف كيف يتكيف ويسيطر على كافة الظروف
وكيف يستقر فوق أعواده
بأطوالها وأبعادها المختلفة
وكيف لا تتزاحم الأوراق على إحتكار الضوء
مصدر حياتها وكأنها عمارة تطل جميع نوافذها على الفضاء
لتستقبل الشمس والهواء
رحت أحسب بدقة رياضية
طول كل ساق والمسافة بين ورقة وأخرى
وإتجاه كل ورقة وزاوية إنحرافها
أو ميلها وأتعجب من هذا التعاون العجيب
والنظام البديع الذي يحكم هذا المجتمع الأخرس
كل ورقة تفسح لجارتها بكل تواضع
مساحة وفراغاً تغترف منه الضوء والهواء..
لا تزامن ولاتكالب كل ورقة حسب حجمها وعمرها
وكل جزء من النبات يعرف حدودة
قانون التكدس لا يعرف طريقة الى هذه المخلوقات البكماء
إنه مجتمع السلام الحقيقي
قلت هذا ليس درساً في علم النبات أو الإجتماع فحسب
ولكنه درس في علم الجماليات
وقانون الإنشاء والتوازن والتناغم والتوافق على أعلى مستوى
وبدأت أشعر بالندم لأنني لم أبدأ
دراستي الفن على يد هذا الكائن الصغير
قبل إستغراقي في دراستي الأكاديمة
معلمي الصغير ( نبات ) البوتس
كم أنا مدين لك بالشيئ الكثير !! .